دور إسرائيل في حرب السودان: تقويض السيادة و تعميق الصراع

ظهر الأمر بصورة واضحة بعد أن نجحت المساعي الإماراتية في ضم السودان إلى مجموع الدول العربية التي أجهرت علاقاتها الديبلوماسية بالكيان الصهيوني.

إن لب الصراع يكمن في التدخلات الخارجية من عدة أطراف أهمها الإمارات التي تقدم دعما ماديا و عسكريا لمليشيات الدعم السريع

منذ 15 أبريل 2023 و الحرب في السودان تدور رحاها دون توقف، و قد أدت إلى مقتل ما يزيد عن 20 ألف شخص ونزوح أكثر من 13 مليون شخص حسب معطيات منظمة الصحة العالمية، ناهيك عن الانتهاكات الجسيمة وجرائم التعذيب والتنكيل التي ارتكبتها الميليشيات في حق النساء و الأطفال و المدنيين. رغم انتشار سردية تؤكد أن سبب الحرب في السودان هو الصراع لأجل السلطة بين قوات الدعم السريع – تحت قيادة حميدتي – و الجيش السوداني – الذي يترأسه عبد الفتاح برهان –، فإن لب الصراع يكمن في التدخلات الخارجية من عدة أطراف أهمها الإمارات التي تقدم دعما ماديا و عسكريا لمليشيات الدعم السريع.

الإمارات: الطرف الأكثر استثمارا في الحرب السودانية

منذ اندلاع الحرب في السودان تباينت الروايات وتضاربت الأقوال حول أسباب الحرب، بين من يرى أنها صراع بين جنرالين/ قائدين من أجل السيطرة و نيل السلطة، و من يرى أن لهذه الحرب أبعادا اقتصادية وجيوسياسية مهمة. في تقرير صحفي للجريدة الأمريكية "نيويورك تايمز"، اتهمت هذه الأخيرة دولة الإمارات بالتخفي تحت راية الهلال الأحمر لنقل أسلحة مهربة و تزويد ميليشات الدعم السريع بطائرات مسيرة يشتبه أنها استخدمت في محاولة اغتيال أخيرة لرئيس القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان. دعم الإمارات السري لقوات الدعم السريع ينضوي تحت جهودها لبسط نفوذها على دول افريقية عديدة وموانئ مهمة مثل جيبوتي والصومال. آخر هذه التحركات في ظهرت في قرض بقيمة 12 مليار يورو لدولة جنوب السودان المعزولة برياً بهدف تنمية البنى التحتية البترولية وإنشاء خط أنابيب جديد لتصدير النفط عبر إثيوبيا وجيبوتي، حيث يمكن دولة جنوب السودان من تصدير نفطها من موانئ غير ميناء بورتسودان الواقع في شمال شرق السودان.

منذ استقلال السودان في العام 1956 وهو يعاني من مشاكل توزيع غير عادل للسلطة والثروة في أطرافه المترامية، حيث أن المستعمر قام بتنمية مناطق واستثمارها كمشروع الجزيرة لإنتاج القطن، وقام الاستعمار الانجليزي كذلك بإهمال وإغلاق مناطق أخرى مثل جنوب السودان لمنع تمدد وانتشار اللغة العربية بمنطقة جنوب السودان عبر قانون المناطق المقفولة. أدى هذا التوزيع غير العادل لنشوء حركات مسلحة في فترات متفرقة في جميع جهات السودان، واستعانت بعض الحكومات السابقة بقوات من رعاة الإبل الرُحَّل سميت بقوات المراحيل في ضرب حركات التمرد في أنحاء غرب السودان، ليأتي نظام الإنقاذ بقيادة الرئيس السابق عمر البشير ويقوم بإضفاء صفة قانونية على هذه القوات حيث تم تسميتها بقوات الدعم السريع في العام 2013.

استعان نظام عمر البشير بقوات الدعم السريع في دحر أعدائه الداخليين وحمايته من انقلاب الجيش عليه، كما أنها ساهمت في تقريبه من تحالف دولة الإمارات والسعودية بمشاركتها في معارك التحالف الإماراتي السعودي في اليمن، وقد صرح قائد قوات الدعم السريع حميدتي أن 412 جندي من قوات الدعم السريع قتلوا في معارك اليمن في عام 2018. 

ظهرت كذلك قوة وتأثير هذا التحالف الجديد في أحداث مثل رفض السلطات السودانية استقبال وفد رسمي يترأسه وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني سنة 2019، إضافة إلى توقيع اتفاقيات أمنية و اقتصادية بين الدولتين و تقديم دعم مالي ولوجستي من السعودية والإمارات لصالح قوات الدعم السريع. في أمسية 30 ماي 2019، بلغ مكتب الجزيرة بالخرطوم أن المجلس العسكري الانتقالي في السودان قرر سحب تصاريح عمل الشبكة المملوكة للدولة القطرية دون إبداء سبب رسمي، وهو موقف قد جاء في سياق مرحلة انتقالية مشبعة بالتوتر السياسي عقب الإطاحة بعمر البشير. 

منذ سقوط نظام عمر البشير سنة 2019، عرف السودان مرحلة انتقالية تزخر بالتحديات. من بين هذه التحديات قضية مصير قوات الدعم السريع الموازية للجيش السوداني والشريك في التغيير الأخير والإطاحة بنظام عمر البشير. نشب بعد سقوط نظام عمر البشير تنافس بين قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في استرضاء دولة الإمارات التي كانت قد تبنت دور عرابة التطبيع في الشرق الأوسط.

ظهر الأمر بصورة واضحة بعد أن نجحت المساعي الإماراتية في ضم السودان إلى مجموع الدول العربية التي أجهرت علاقاتها الديبلوماسية بالكيان الصهيوني. تم توقيع اتفاق التطبيع الإسرائيلي السوداني في 23 أكتوبر 2020 بين عبد الفتاح البرهان – بصفته رئيس المجلس السيادي السوداني – و رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتانياهو في مدينة عنتيبي - أوغندا. قد تضمن هذا الاتفاق تعهدا من السودان بإقامة علاقة دبلوماسية و اقتصادية مع إسرائيل، بما في ذلك التعاون في مجالات الزراعة، و التكنولوجيا، و التجارة. في المقابل، تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب و السماح له بالانفتاح على الأسواق الدولية في خضم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها. كانت هذه نقطة البداية التي جعلت دولة الاحتلال الصهيوني تتوغل في الشأن السوداني الداخلي، مستغلة حالة الاضطراب السياسي والاقتصادي التي تمر بها البلاد. 

بالتوازي مع جهود عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السودان، اجتهد حميدتي قائد الدعم السريع كذلك في إنشاء صِلاته الخاصة وتقويتها بالنظام الإماراتي عبر لقاءات وزيارات أفريقية مثل زيارته لدولة أثيوبيا ولقائه برئيس وزرائها آبي أحمد.

التدخل الإسرائيلي في الحرب السودانية  

كانت محصلة تنافس الجنرالين هي فوز حميدتي قائد قوات الدعم السريع برضا القوى الاقليمية على غير عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني. ربما باسترجاع الذاكرة قد يتضح المشهد أكثر للمشاهد، و نرى أن رهان كل من الإمارات و إسرائيل على ميليشيا حميدتي ضد مؤسسة الجيش السوداني لم يكن قرارا اعتباطيا و إنما كان اختيارا استراتيجيا مدروسا للتوغل في القارة الإفريقية عبر أوسع أبوابها. ففي ظل غياب توافق داخلي و رؤية استراتيجية واضحة، أصبح السودان ساحة مفتوحة لتنافس قوى إقليمية ودولية بعد أن تم تجريده من سيادته واستقلال قراراته السياسية.

على مدى العقود الماضية، اتسمت العلاقة بين مؤسسة الجيش السوداني والكيان الصهيوني بالعداء و الاحتدام، وهو الجيش الذي كان قد هتف أفراده بشعارات مثل "أمريكا قد دنا عذابها" في حروبه الطويلة مع مقاتلي الحركة الشعبية في جنوب السودان. ويبدو من الجلي أن الولايات المتحدة وإسرائيل استهدفت مؤسسات الدولة السودانية منذ عقود، وعلى رأسها الجيش، بينما قدمت دعما عسكريا لجهات مسلحة و ميليشيات غير نظامية مثل الدعم السريع بغرض زعزعة الأمن و الاستقرار في البلاد و الإطاحة بالنظام السوداني المعادي لإسرائيل. يجب هنا تذكر أحداث مثل قصف مصنع الشفاء للأدوية عام 1998، بحجة أنه ينتج أسلحة بيولوجية وأن ضربات صواريخ كروز التي أطلقها الجيش الأمريكي بأمر من حكومة بيل كلينتون كانت دفاعا عن النفس و ردا للاعتبار عقب تفجيرات 7 أغسطس بشاحنة على سفاراتها في دار السلام، تنزانيا، نيروبي، و كينيا… واحداث مشابهة مثل قصف إسرائيل مجمع اليرموك للتصنيع الحربي الخاص بالجيش السودان في العام 2012، بحجة أنه يقوم بتصنيع أسلحة تذهب لحركة حماس، الأمر الذي جاء متزامنًا مع التهديدات الإسرائيلية بأن الحل العسكري للملف النووي الإيراني سيظل واردا بالنسبة للكيان الصهيوني. كما نفذت إسرائيل عمليات اغتيال استهدفت تجار أسلحة في شرق السودان، متهمة إياهم بالتعاون مع شبكات تهريب مرتبطة بكل من حماس وحزب الله و إيران؛ كل هذا يجعل مليشيا الدعم حليفا مطيعًا للقوى الاستعمارية في المنطقة وبديلاً عن جيش السوداني المشكوك في طاعته لهذه القوى الاستعمارية، وأن تفكك الدولة السودانية ككل هو جزء أصيل من إرادة هذه القوى.

في أكتوبر 2015، تم نشر كتاب بعنوان «مهمة الموساد في جنوب السودان» يوثق دور الجهاز الاستخباراتي لدولة الاحتلال في تدريب وتسليح الانفصاليين، وذلك تيمنا بالتقليد الكولونيالي العتيق الذي يقضي بتفتيت الدول عبر تعزيز الانقسامات العرقية و السياسية بين أفراد الوطن الواحد. لم تكتفي دولة الاحتلال بتقديم دعم سياسي ودبلوماسي أمام المجتمع الدولي لمشروع الدولة الانفصالية "جنوب السودان"، بل عملت على تقديم الدعم العسكري و للمقاتلين الجنوبيين بهدف تقوية حركتهم الإنفصالية و إضعاف وحدة السودان. كما سارعت دولة الاحتلال إلى الاعتراف بدولة جنوب السودان مباشرة بعد إعلانها استقلالها سنة 2011، و قامت ببناء علاقة وطيدة مع قيادات هذه الدولة الحديثة، وليدة التمويل الصهيوأمريكي. 

تحاول إسرائيل ترسيخ وجود لها في ليبيا من خلال علاقاتها الدبلوماسية مع السودان  بهدف منع التجار الليبيين من تهريب السلاح إلى غزة والضفة الغربية. من جانب آخر، ساهم التطبيع في حملة شرسة ضد الاستثمارات الفلسطينية في السودان، حيث صنفت الحكومة السودانية هذه الاستثمارات كواجهات تمويل لحركة حماس. كان من بين هذه الاستثمارات مجموعة "الرواد العقارية"، التي صادرتها لجنة إزالة التمكين السودانية. ولا ننسى ضمن هذا أن الدعم السريع كان يتلقى دعما سخيا من الاتحاد الأوروبي مقابل إيقاف حركة الهجرة البشرية الطبيعية الغير قانونية التي تعبر السودان نحو شمال إفريقيا ثم أوروبا.

بعد اندلاع الحرب و احتدام المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني و ميليشيا الدعم السريع، تبنت دولة الاحتلال موقفًا محايدًا في مجلس الأمن رغم تنامي الأدلة على دعمها غير المباشر لقوات الدعم السريع، حيث أن تقريرًا لمنصة التحقيق الصحفي إيكاد أفاد بأن حسابات لمؤيدي ميليشيا حميدتي قد نشرت على منصة X مقاطع تظهر قاذفة LAR-160 إسرائيلية الصنع، مما يجعل من دولة الاحتلال شريكًا في حرب العدوان على الشعب السوداني و حليفًا لعصابات الدعم السريع التي لم تترك جرما دون أن ترتكبه ضد المدنيين العزل. هذا الدعم قد يجعلها شريكة في العدوان على الشعب السوداني، ويعرضها للمساءلة القانونية عن دعمها لقوات متهمة بارتكاب جرائم حرب.

كلما طال أمد هذه الحرب، اختلفت الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة بين من يتوقع نشوب حرب طويلة ستستنزف حتمًا كل موارد البلاد وخيراتها، ومن يرى أن التدخل الإسرائيلي – و إن كان يشكل تهديدا أمنيًا على السودان – من شأنه أن يقوم بحشد أعداد هائلة من خيرة الشباب القادرين على مجابهة كيان يحاربهم خلف عصابات من المرتزقة وقطاع الطرق. إن هذا الواقع الجديد يُبرز أن الشعب السوداني قد يتحول إلى قوة لا يستهان بها، تواجه التدخلات الخارجية بوحدة وإرادة مستمدة من تاريخ طويل من النضال ضد الاحتلال والاستبداد. صحيح أن استمرارية الحرب لا بد أنها تعمق حجم المعاناة الإنسانية، لكنها قد تفتح الباب لتحولات غير متوقعة في ميزان القوى الداخلي و الخارجي.   

• آية العنزوق
• Ayaanzouk12@hotmail.com