فؤاد عبد المومني* لا يمكن فهم مواقف حركة حقوق الإنسان إلا باستيعاب طموحها لأن تكون الضمير الجمعي الغير متحزب للبشرية كافة. وقد اكتشف عدد من ...
فؤاد عبد المومني* |
وقد كان من شرف الحركة الحقوقية المغربية أن انسلخت من ظروف نشأتها، حيث كانت مجرد وسيلة يدافع بها اليسار على أبنائه المعتقلين والمختطفين والمعذَّبين. كانت تعتبر أن وظيفتها الطبيعية هي فضح تسلط الدولة، بل وتواجه الدولة ككيان واعتباره عدوا لأن خرق حقوق الإنسان جزء من طبعه. ثم رامت أكثر إلى مواجهة الأفعال المشينة التي تُرتَكب باسم الدولة وبإمكانياتها وسلطتها، وإلى حركة تتبنى وتدافع عن كافة ضحايا خرق حقوق الإنسان، حتى ولو كانوا من أعتى عتاة معاداة حقوق الإنسان! هكذا مرت الحركة المغربية لحقوق الإنسان من الدفاع عن اليساريين إلى الدفاع عن العسكريين وأهلهم وعن الصحراويين الاستقلاليين وعن الإسلاميين والمتهمين بالعمليات الإرهابية، وكذا عن ذوي الميول الجنسي المثلي والمتهمين بعبادة الشيطان والمتابعين بسبب تغيير دينهم أو عدم الصوم في رمضان وغير ذلك. تحررت إذن من البحث في صواب مواقف ضحايا الخرقات إلى الدفاع عن تمتيع كافة الأفراد بحقوقهم الدنيا، بما فيها الحق في الأمان الشخصي وفي حرية الرأي والتعبير والتنظيم والتظاهر والمساواة أمام القضاء وتطبيق القانون والمعاملة اللائقة.
ورغم ما نفخر به من تقدم في التجرد عن الخلفيات والمرجعيات الفكرية والسياسية في الدفاع عن حقوق الإنسان، فلا زالت حركتنا بعيدة عن الكمال في هذا المجال، ولا زالت العديد من المواقف تتأثر بالقناعات والحسابات السياسية التي لا يمكن التخلص منها بالمطلق، خصوصا في ظل نظام قمعي وفي غياب فضاء رحب للنقاش العام يسمح ببلورة المواقف الجماعية الدنيا. ومما يزيد من مفاقمة الصعوبات، تأرجح المزاج العام. إذ تمر مراحل، كما هاته التي نحن فيها والتي تفضح كيل من يدَّعون أُبُوَّة حقوق الإنسان بمكيالين لما يتعلق الأمر بشعوب مستضعفة، يسهل فيها ازدراء الحاجة لضمير جمعي للبشرية، والقدح في آلياته الدولية والمحلية.
وقد تشكل قضية الصحراء حالة دراسة مهمة في هذا الباب. انطلق النقاش من مبادئ كونية عامة، اصطدم فيها حق الشعوب في تقرير مصيرها بحق الشعوب في وحدة ترابها، على خلفية مواقف سياسية تحضر فيها الوطنية والكونية بأشكال متباينة. وحُسِم الأمر إلى ما يمكن اعتباره إجماعا على مبادئ عامة يمكن تلخيصها في :
- رفض الاصطفاف السياسي لفائدة أي طرف،
- تغليب المشروعية وما يمكن من التوافقات التي تراعي الأمن والسلم والحرية والتعايش وتسهل العيش الكريم للجميع،
- الدفاع عن حقوق وحريات الأفراد والجماعات، بما في ذلك حق الرأي والتعبير لفائدة الوحدة أو الاستقلال في كافة مناطق تواجد المعنيين،
- مواجهة ما قد يتعرض له أي فرد أو جماعة من تعامل مناف للحق والقانون، بشِقَّيْه المحلي والدولي.
وتم تصريف هذه المبادئ من طرف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في دعم الحل الدائم والسلمي والمتوافق عليه، تحت إشراف منظومة الأمم المتحدة. هذه الصيغة التي التزمت بها كافة الأطراف المعنية منذ عقود لم يتبرأ منها أي طرف، ولو أن تأويلاتها ومضامينها المقترحة لم تعرف التقدم المأمول نحو الحل النهائي.
هذا الموقف ليس سندا ولا ضدا لموقف مغربية الصحراء. فالموضوع لم يبق كما كان سنة 1975 حين طٌرِح السؤال على محكمة العدل الدولية بلاهاي عن الأحقية القانونية والتاريخية بالسيادة على التراب الصحراوي. السؤال الراهن يدور حول ما هو الحل الذي يمكن توافق الأطراف عليه للخروج من الوضع القائم وتبعاته الكارثية إنسانيا (عائلات ممزقة، أجيال تتوالى في المخيمات والملاجئ، ضحايا للاحتقان وتبعاته القمعية...) واقتصاديا (كلفة العسكرة والسباق نحو التسلح، غياب أي اندماج اقتصادي جهوي...) ودبلوماسيا (تأثير سياسة الأحلاف وإضعاف بلدان المنطقة أمام من يستغلون الوضع لابتزازها بتأييد موقف أو الآخر) وأمنيا (مخاطر انزلاق الوضع إلى مواجهات عسكرية ضارية)...
لا يمكن لحركة حقوق الإنسان إنكار بعض المكاسب المهمة خلال نصف القرن الذي عمرت فيه قضية الصحراء، وعلى رأسها عدم اتساع دائرة الحرب بشكل لا يُبقي ولا يذر، ووقف إطلاق النار الذي ساد منذ ثلث قرن (رغم عودة العمليات المحدودة خلال السنوات الأخيرة)، والتزام الأطراف بالعمل الجاد وبحسن نية من أجل إيجاد الحل السلمي والمتوافق عليه. لكن هذا لا يضمن عدم وقوع خرقات جدية للمبادئ والشرائع والالتزامات، ولا يُؤَمِّن الخروج من الوضع القائم المُكَلِّف والمحفوف بالمخاطر.
يبقى أن ملف الصحراء، شأنه شأن كافة الصراعات الجهوية، يستدعي الحاجة لمؤسسات تنأى بذاتها عن التمترس في الصراع السياسي والعسكري، وتساهم في إرساء مبادئ تنير الطريق وتسهل الحلول وتوفر شروط التآخي وتقف سدا أمام غلاة الشوفينية أيا كان مصدرها. وأما من يطالبون الجميع بموقف موحد، فعليهم استحضار أن خروج البشرية من مآزقها كان دائما بفضل الحكمة والعقل والحلول الوسطى، وليس بالسباق إلى دق طبول الحرب وتخوين من يحاول بناء شروط الكرامة والتعايش للجميع.
وتبقى طبعا معركة بناء ضمير جمعي متعال عن حسابات الأطراف معركة محفوفة بالمخاطر، غالبا ما يجد فيها مناضلوها أنفسهم في عداد الأقليات ويتم رميهم بالخيانة وملاحقتهم في تعبيراتهم وحرياتهم. لكن، وكما القاضي الذي نذر نفسه لتطبيق القانون والدفاع عن الحق أيا كانت الأطراف أمامه وأيا كانت ميولاته الشخصية، لا مناص لمن يدعي خدمة حقوق الإنسان من تحمل العزلة والعسف، حتى تتحول طروحاته الحالمة إلى بديهيات ينهل منها المجتمع كافة.
وعاشت حركة حقوق الإنسان !
تعليقات