احتجاجات الشارات الصفراء نتاج للازمة الاقتصادية، والقرارات التي استهدفت مستوى العيش، و"مرض" الديمقراطية الفرنسية، ولذلك انتقلت...
احتجاجات الشارات الصفراء نتاج للازمة الاقتصادية، والقرارات التي استهدفت مستوى العيش، و"مرض" الديمقراطية الفرنسية، ولذلك انتقلت بسرعة إلى بلجيكا التي تعاني من المشاكل نفسها، وليس من المستبعد أن تنتقل إلى دول أوروبية أخرى.
سعيد السالمي: استاذ العلوم السياسية بجامعة بزانسون بفرنسا
حاورته جريدة "أخبار اليوم" في عددها السبت/ الاحد الأخير
كيف تقرأ احتجاجات أصحاب الشارات الصفراء في فرنسا ثم اتساعها لتشمل ودول أوربية اخرى؟
هذه الاحتجاجات مردها إلى تداخل عدة أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية. الاقتصاد الفرنسي لم يتعاف منذ الازمة العالمية لسنة 2008، ذلك أن معدل نموه بالكاد تجاوز 1% وتفاقمت المديونية حيث تتجاوز اليوم 100% من الناتج الداخلي الخام، في حين يناهز عدد الذين يعيشون دون عتبة الفقر 10 ملايين.
للتعامل مع هذا الوضع أقدمت الحكومات المتعاقبة على اتخاذ قرارات صعبة، انعكست سلبا على القدرة الشرائية للمواطنين، وعلى مستوى عيشهم بالتالي، وكانت آخرها هي قرار الرفع من ضريبة الوقود الذي ألحق ضررا بالغا بالطبقة الوسطى وجزء كبير من الطبقة الفقيرة سيما التي تستعمل سياراتها للتنقل من القرى وضواحي المدن للعمل، ما أخرجها للاحتجاج في الشارع لإيصال صوتها، إيمانا منها بأنها الوسيلة الوحيدة لأنها لا تثق في الاحزاب والنقابات والمؤسسات الوسيطة، وسارت تخاطب الرئيس بشكل مباشر، وهذا واحد من أوجه الخطر فيها، فضلا عن العنف الذي اتسمت به في بعض الاحياء في باريس، دون الاقاليم، لأنها أعلنت عن فشل الديمقراطية التمثيلية الفرنسية، أو نموذج الجمهورية الخامسة، وهذا ما كنا نلمسه في معدلات المشاركة في الانتخابات على مدى العقدين الماضيين، كما أن الاتحاد الاوروبي ظل يخصص بيانات سنوية لدق اجراس الخطر بشأن هذه الظاهرة.
خلاصة القول إن احتجاجات الشارات الصفراء نتاج للازمة الاقتصادية، والقرارات التي استهدفت مستوى العيش، و"مرض" الديمقراطية الفرنسية، ولذلك انتقلت بسرعة إلى بلجيكا التي تعاني من المشاكل نفسها، وليس من المستبعد أن تنتقل إلى دول أوروبية أخرى.
يلاحظ أن هذه الاحتجاجات تزامنت مع صعود اليمين المتطرف وانسحاب بريطانيا من الإتحاد وتوتر العلاقات مع أمريكا، هل نحن أمام خريف النموذج الاوربي؟
الحديث عن "البريكسيت" والوحدة الاوروبية بالتزامن مع هذه الاحتجاجات دقيق للغاية لأنه يحيلنا على سيتينات القرن الماضي عندما كانت فرنسا تعيش ما يصطلح عليه بالسنوات الثلاثين المجيدة، وكانت بريطانيا تصر على الانضمام الى الاتحاد، رغم أن الجنرال دوغول ظل يقابل طلبها بالرفض، ولم تنضم إلا بعد مجيء "بومبيدو"، الذي وجد في طرح الاستفتاء بشأن انضمام بريطانيا فكرة وجيهة لتقسيم اليسار، الذي كان جزء منه مؤيدا وآخر رافضا.
واللافت أن فرنسا، في تلك الفترة، شهدت احتجاجات ماي 1968 التي يستحضرها الكثيرون اليوم على سبيل التشبيه مع أنها مختلفة تماما لأنها كانت مؤشرا على ازدهار اقتصادي صنع طبقة متوسطة ثارت في وجه دوغول، وليس العكس كما نحن بصدده اليوم.
اليوم، نحن نعيش سياقا آخر، نقيضا، يعكس حجم المياه التي جرت تحت جسر أوروبا. فرنسا في أزمة، وبريطانيا تغادر سفينة الاتحاد بعد "مرضه"، وقبل انسحابها شهدنا أزمة اليونان، وإيطاليا، اللتين أبانتا عن خلل بنيوي على مستوى الاتحاد، حيث تدخلت المفوضية بشكل مس بسيادة الدولتين، وكان ذلك خرقا للمبدأ الرئيس الذي تأسس على أساسه وهي سمو المصلحة الجماعية.
أكيد أن احتجاجات اليوم تنضاف إلى هذه الازمات التي مر منها الاتحاد لانها تعزز اليمين المتطرف والتيار الهوياتي والانغلاق على الذات، ولكن بنية الاتحاد نفسها تتحمل نصيبا مهما من المسؤولية في الاحتقان الاجتماعي لأن القرارات الاقتصادية المصيرية تتخذ على مستوى بروكسيل، من طرف نكنوقراط، بعيدا عن صناديق الاقتراع.
هل يكون الاقتصاد سبب التفكك الاوربي كما كان ايضا الحافز القوي نحو الوحدة الأوربية؟
بالتأكيد. الركود أو التراجع الاقتصادي يؤدي حتما إلى تعزيز التيارات القومية والهوياتية والمزيد من الانغلاق على الذات، بل أكثر من ذلك، لإنه سيكون سببا للتفككات الداخلية أيضا. يجب ألا ننسى أن أحد أهم الدوافع التي أخرجت كاطالونيا إلى الشارع للمطالبة بالاستقلال كونها وحدها تنتج 20% من الناتج الداخلي الخام لاسبانيا، وطرحت مسألة إعادة توزيع ثرواتها التي توزع على الاندلس والاقاليم الاخرى. الحل البديل إذن للحفاظ على الوحدة هو التوجه نحو الموذج الفدرالي. إذا نظرنا إلى الخريطة السياسية لاوروبا فإن الانظمة الاكثر استقرارا هي الفدرالية، على غرار ألمانيا، التي طورت بالمناسبة فضلا عن ذلك نموذجا هجينا بين الديمقراطية التمثيلية والتشاركية والفكر الصناعي.
هل تتفق مع القول بأن تراجع بريق النموذج الاوربي هو نتيجة طبيعية لظهور وتقدم نماذج أخرى منافسة خارج الغرب الليبرالي؟
هناك مستويان للتعامل مع هذه المسألة. الاول يتعلق بالنموذج الاوروبي في حد ذاته، والثاني يخص "الفكرة الاوروبية" التي أفضت إليه من خلال سيرورة تاريخية امتدت على ستة قرون من النقاش الفكري، منذ سقوط الامباطورية الرومانية، بين مختلف المدارس الفسلفية الغربية كما هو معلوم.
ظاهريا فإن النموذج الاوروبي تراجع لأن "المعجزة الاقتصادية الصينية" تقدمت. أتفق مع الطرح، بعيدا عن الجدل النظري الذي يثار حول الصلة المحتملة بين إجماع واشنطن والاتفاقيات الاوروبية من جهة، وأسس النموذج الصيني من جهة ثانية.
ولكن التدقيق في تاريخ الفكرة الاوروبية والمجالات الجغرافية حول العالم التي تراجعت فيها أوروبا لصالح الصين يجعلنا نقول إن النموذج الاوروبي بنوية مهدت لتراجعه. على سبيل المثال، لا يمكن أن نفصل تراجع الاتحاد أمام الصين في إفريقيا عن الماضي الكولونيالي الاوروبي وتصوراته حول إفريقيا.
الاوساط الجامعية الاوروبية ومعاهد البحث واعية بهذه الاختلالات لهذا بدأت تهتم بطرح توصيات تؤسس لتعاون مع الصين في إطار علاقة "رابح رابح"، عوض الاكتفاء بالاتنقادات القيمية التقليدية المعروفة. وفي هذا الصدد شاركت مؤخرا في لقاء حول هذا الموضوع من تنظيم معهد "شيلر" وأكاديمية باريس للجيوسياسيا التي يديريها الصديق "علي راستبين"، وكان مما أثار انتباهي أن جل المتدخلين عادوا إلى ما قاله الفيلسوف الألماني "غوتفريد ليبنز" في القرن السابع عشر عندما انتبه إلى أهمية الحوار بين أوروبا والصين من خلال الفلسفة الكونفوشية ومبادئها الكونية التي لم تكن تختلف عما يرومه الفكر الاوروبي، ولكن دعوته بقيت صيحة في واد. ربما تستدركها أوروبا اليوم.
تعليقات