مازالت أحداث كمونة باريس والثورة الفرنسية محفورة في أذهان العديد من المهتمين بالثقافة والسياسة ليس على مستوى فرنسا وحسب إنما على مستوى...
مازالت أحداث كمونة باريس والثورة الفرنسية محفورة في أذهان العديد من المهتمين بالثقافة والسياسة ليس على مستوى فرنسا وحسب إنما على مستوى العالم.
ليس غريبا ما يجري بفرنسا ،وليس غريبا سلوك السلطات الفرنسية،وطريقة تعاملها مع المحتجين ، التي ظهرت لجميع المتابعين من خلال شاشات التلفزة التي نتابعها ،إن السلطات الفرنسة قدمت نموذجا حضاريا ومسؤلا بتعاطيها مع مطالب المحتجين مقارنة بغيرها من الدول .وسارعت لإلغاء قراراتها بشان الضرائب ، التي دفعت المحتجون للنزول إلى الشوارع من اجل إلغاءها ، والمطالبة بمكاسب جديدة لصالحهم .وهذا عربونا أوليا، قبضه أصحاب السترات الصفراء من الحكومة الفرنسية .وهي مطالب يسارية صرفة .
بيد أن السلوك الحضاري والمسؤول ليس حكرا على السلطة والحكومة الفرنسية. لقد ظهر جليا، أن المحتجين أكثر رقيا وحضارة من السلطات التي طغت وتجبرت على الطبقة الفقيرة ، رغم بعض الأعمال الخاطئة ، التي ظهرت، ولم نعرف من يقف خلفها !
إن ما نشاهده الآن على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تهتم بتصوير الاحتجاجات في فرنسا. تثبت بما لا يدع مجالا للشك ،أن هناك ثمة فوارق حضارية. بين الشعوب المتحضرة، والسلطات التي تستمد شرعيتها من شعوبها من جهة ، وبين الشعوب المتخلفة التي تُصنعها سلطاتها من جهة ثانية ..وبين احتجاجات غايتها الإنسان وحقوقه ،وحريته وآمنه الغذائي بغض النظر عن انتماءه الديني أو العرقي من جهة ، وبين احتجاجات تقوم على الاختلافات الطائفية والمذهبية ، بهدف الوصول إلى السلطة ،أو الحفاظ عليها، والسيطرة على مقدرات الشعب والتحكم بشروط حياته ،بغية الوصول أو احتكار ، لسلطة تمارس التسلط والإقصاء والتهميش والإلغاء ،وصولا إلى تأبيد البقاء على كرسي الحكم وضمانه للأولاد والأحفاد.
لاشك أن أدوات ووسائل المحتجين وطرق واليات إدارة الاحتجاجات، تعكس مقدار الوعي والمسؤولية التي يختزنها الفرد أو الجماعة المحتجة. وليس غريبا على الشعب الفرنسي سلوكه الحضاري .وتاريخه النضالي من اجل الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية الفرنسية لها بصمة خاصة تتميز بها عن باقي دول العالم.
مازالت أحداث كمونة باريس والثورة الفرنسية محفورة في أذهان العديد من المهتمين بالثقافة والسياسة ليس على مستوى فرنسا وحسب إنما على مستوى العالم.
وبناء على ما ذكرته أقول:
إن الشعوب الحرة ،التي عرفت الحرية ،وعاشتها وانعكس ذلك في سلوكها ونمط حياتها ، هي التي تستطيع حمايتها والدفاع عنها.وهنا يتجلى ديالكتيك الحياة بصورته الطبيعية ، والإسقاطات الواقعية على حركة التاريخ ، المتجددة دائما رغم كل المعيقات التي تنتهي إلى الفشل في وقف حركة التاريخ المتجددة.
ليس خافيا على احد امتعاض الرئيس الأمريكي ترامب ،عندما اخبره الرئيس الفرنسي ماكرون ،عن نيته في تشكيل جيش خاص بالاتحاد الأوروبي .كما لم يخف عدم رضاه عن فرنسا وبعض الدول الأوروبية ، التي غردت خارج الرغبة الأمريكية ، بما يخص الاتفاقة التي ابرمت بين مجموعة الدول النووية ومنظمة الطاقة الذرية مع إيران .وانسحبت منها الولايات المتحدة الأمريكية لغاية في نفسها.
إن زوال فزاعة الخطر الشيوعي التي كانت تستخدمها ، الولايات المتحدة الأمريكية ، طيلة القرن الماضي ، والتي جعلت جميع دول أوروبا الغربية وعلى رأسهم فرنسا خاضعة ، وتستجيب للأملاءات الأمريكية قد ولا ، مع ظهور النزوع القومي الفرنسي ، في العديد من المواقف ،والرغبة عند بعض الأوروبيين ، بالتحرر من التبعية للإدارة الأمريكية ولو جزئيا .لذلك أصبحت فرنسا بموقف لا تحسد عليه ،وخاصة بعد إصرار بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي .فهي أمام تحديات خطرة .
فهل تستطيع فرنسا تجاوز المحنة رغم كل الصعوبات التي تواجهها ؟
اعتقد بضرورة التنبه على أن الدول الديمقراطية ،والتي تتشكل حكوماتها بانتخابات حرة وديمقراطية ، تحافظ على قوتها وصمودها بالازمات حتى ولو أدى ذلك لتغيير تلك الحكومات .وعلى طريقة المثل القائل ( الضربة التي لا تقسم الظهر تشده) واعتقد بان الحكومة الفرنسية ، ستتجاوز الازمة ، وستخرج منها قوية .وخاصة بعد تقليم أظافر الليبراليين الجدد ، وأصحاب الشركات العابرة للقارات الذين يتلقون تعليماتهم من شركائهم الأمريكيين ،وتتجلى ذلك بموافقة السلطات الفرنسية الاستجابة لمطالب المحتجين ،التي تشكل مقدمة لانتصار مطالب اليسار المعبر عن مصالح الفقراء.
إن الاحتجاجات الفرنسية تحمل العديد من الرسائل .تخفي بين سطورها مؤشرات صريحة لولادة يسار فرنسي جديد قد يغير في أولويات الساسة الفرنسيين .ويعمل على زرع الخلاف بين أولائك الساسة والساسة في أمريكا .بسبب تضارب المصالح القائمة على هيمنة الإدارة الأمريكية على فرنسا وباقي دول الاتحاد الأوروبي .
*كاتب من سوريا
تعليقات