*عبد المالك سالم خضر السعدي إن كان فرانسيس فوكو ياما قد كتب عن نهاية التاريخ في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وأشار إلى أن (الديمق...
*عبد المالك سالم خضر السعدي |
إن كان فرانسيس فوكو ياما قد كتب عن نهاية التاريخ في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وأشار إلى أن (الديمقراطية الليبرالية) هي نهاية الجدلية التاريخية، وأن جميع الأيدولوجيات لم تصل إلى قيم ومبادئ تلك الديمقراطية، ولذا فإن التاريخ وجدليته الأيديولوجية قد انتهيا إلى الديمقراطية الليبرالية، ونرى أنه بنفس الوقت قد ابتدأ بها ليفسر حركة الحياة وفقًا لها ولقيمها.
كذلك فإن العلوم الإنسانية والتطبيقية والعلوم الصرفة وعلم الأديان وما ينبثق منه قد وصل إلى نهاية (جدلية) نتيجة للتطور المعرفي الهائل الذي حدث خلال النصف الثاني من القرن الماضي وتطور التقنيات وسبل التواصل في العقد الأول من هذا القرن.
فعندما بدأت العلوم بالانفصال عن الفلسفة وتبلورها إلى نماذج بحثية منتظمة ووسائل تقنية واضحة لكل منها، عند تلك النقطة كانت الولادة الحقيقة لكل العلوم وبدأت العلوم بالنضج والتطور؛ حتى وصلت مرحلة الرشد فأنتجت لنا الحياة العصرية بكل مقوماتها.
وكما يقول هيغل فإن كل فكرة – نهضوية – تحمل في طياتها ما يناقضها، كذلك العلوم، قد ولدت وبدأت النمو والتطور والتبلور، ولكن يبدو أن نظرة هيغل قد أصابتها؛ فولدت فكرة نهاية هذه العلوم، كجنين ينمو في رحمها، ويقتات على نموها وتطورها، وكلما ازدهرت هذه العلوم وتطورت نما هذا الجنين وشارف على الولادة.
فالعلوم ليست بدعًا من الأفكار، فيصيبها ما أصاب الأفكار والأيديولوجيات جميعها، ولذا فإن هذه التطور الذي حدث في العقد الأول من هذا القرن وخاصة في مجال الاتصالات والتواصل الاجتماعي قد ألقى بظلاله على ذلك الجنين (نهاية العلوم) ليسرع به نحو الولادة، وذلك لأن معظم النظريات العلمية والنفسية والاجتماعية والدينية لم تعد قادرة على تفسير حركة الحياة المعاصرة بما فيها من مركبات نفسية وسلوكية وتقنية واجتماعية؛ وذلك لوجود عوالم متداخلة في البنية الفعلية لحركة الحياة المعاصرة، ومن ذلك العالم الافتراضي الذي يعيشه كل منا في مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الإلكتروني الذي نعيشه مع وسائل الاتصالات الحديثة، إضافة إلى واقع خيالي نعيشه مع مشاهداتنا للأفلام و(مواقعها)، فضلًا عن واقعنا الحقيقي أو قل الواقعي. كل ذلك أدى إلى أن ما قدمه العلم في كل مجالاته لم يعد قادرًا على اللحاق بمنتجاته الحياتية.
ولنأخذ مثلًا عن ذلك العلوم النفسية، ففي القرنين الماضيين تطور علم النفس تطورًا كبيرًا وظهر له عدد من النظريات التي حاولت تفسير السلوك الإنساني ودوافعه واتجاهاته ومن أهم النظريات:
1- نظرية التحليل النفسي لسيجموند فرويد.
2- نظرية ب. ف. سكينر (المدرسة السلوكية).
3- نظرية كارل روجرز.
فكل هذه النظريات حاولت تفسير السلوك الإنساني وفقًا لمنهجيتها البحثية، فنظرية التحليل النفسي تعاملت مع الإنسان وسلوكه وفقًا لديناميات (تفاعلات) الشخصية اللاشعورية (1) وطريقة علاجها وأنتجت نظرية للشخصية، خاصة بها، كل ذلك بالاعتماد على تحليل النفس الإنسانية والتداعي الحر والتمييز بين الشعور واللاشعور والتفاعل الحاصل بينهما والأنا والأنا العليا والهو، أما المدرسة السلوكية لسكينر فيبدو أنها ركزت على ملاحظة السلوك الإنساني، ولم تنظر إلى الشعور وتأثيراته، بل اعتمد على ما يظهره الإنسان من استجابات سلوكية، ثم تفسيرها وتوجيهها ومعرفة أسبابها، ومن ثم الانتقال إلى ضبط ذلك السلوك.
إضافة الى النظرية الشخصية لروجرز، وهي أقرب إلى نظرية واقعية، حيث تتعامل مع السلوك كما هو، وأن النفس الإنسانية تحتاج إلى تحقيق ذاتها، ومن خلال هذه النظرة تنبعث معظم سلوكياته، هذا من ناحية من ناحية أخرى نجد أن علم النفس انتقل من مرحلته التأسيسية النظرية إلى مرحلة تطبيقية، وذلك من خلال علم النفس التطبيقي وعلم النفس الإكلينيكي والتجربي وعلم نفس الشخصية.
وبالرغم من ذلك نجد أن علم النفس وتطبيقاته تعاملت مع واقع واحد للنفس الإنسانية، ونحن اليوم نجد الشخص الواحد ينتقل خلال لحظات بين أكثر من واقع (عالم) فهو في لحظة يتعامل معك باعتباره إنسانًا له كتلته ووزنه ومشاعره وفكره ونمط شخصيته وسلوكياته وبعد لحظات يدخل إلى عالم (Seussical media) كي يصبح إنسانًا آخر قد يختلف جذريًا عن الذي تعرفه ثم يشاهد فيلما ثلاثيًا أو رباعي الأبعاد، فتتغير شخصيته، ويدخل إلى عالم الألعاب المرتبطة على الشبكة العنكبوتية بشخصية أخرى… وهكذا في كل لحظة تغيير مستمر لسلوك هذه النفس الإنسانية بانتقالها بين تلك العوالم.
واستنادًا إلى ذلك نزعم أن نظريات علم النفس وتطبيقاته وعلم نفس الشخصية لم يعد قادرًا على تفسير هذه النفس الإنسانية لذا نحتاج إلى نظريات وتطبيقات جديدة غير مسبوقة تفسر لنا هذا (الإنسان الجديد الأصيل) الذي بات بعيدًا عن متناول تحليلات فرويد أو سلوكيات سكينر أو حتى واقعية روجرز وغيره.
وأصبحت كل مقاييس الشخصية تقيس لنا الإنسان في علام واحد ثلاثي الأبعاد لا يشكل أكثر من 30% من حياة الإنسان، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على نتائج هذه الاختبارات فكل فرد الآن يمتلك أكثر من نمط وفقًا للمقياس نفسه إذا ما طبقته على شخصياته المختلفة في الواقع والعالم الافتراضي، وهذا يدفعنا إلى القول بنهاية هذه العلوم، وإننا على أعتاب نظرية شاملة تحاول أن تفسر السلوك الإنساني والشخصية الإنسانية المعاصرة وفقًا لكل تلك المتغيرات.
* (ساسة بوست)
تعليقات